حق المسلم على المسلم
السلام عليكم ورحمة الله.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف رحمه الله تعالى:
كتاب الجامع، باب الأدب:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: « حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه »(1)
رواه مسلم .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.. فأسأل الله لي ولإخواني العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص والسداد في القول والعمل بمنه وكرمه آمين.
"كتاب الجامع" هذا الكتاب ختم به المصنف -رحمه الله- هذا الكتاب، وما أحسنه من ختم لهذا الكتاب، وهذا الجامع يجمع آدابا كثيرة.
وسمي الجامع لأنه جمع آدابا كثيرة في أبواب عدة، منها باب الأدب، وباب البر والصلة، والزهد والورع، والترغيب في مكارم الأخلاق، والترهيب من مساوئها، والذكر والدعاء.
فهذه الأبواب الستة سميت بالجامع؛ لأنها جمعت هذه الأبواب، من حيث الجملة، ومن حيث التفصيل، فإن فيها أحاديث هي من جوامع الكلم، تجمع آدابا يشرع لكل مكلف أن يتأدب بها، خاصة طالب العلم فإنه محل القدوة، والنظر والقدوة والاقتداء، فإنه يزين علمه بالعمل، وبالسمت الصالح، والهدي الصالح، والأخلاق الحسنة، وهذا من أهم المهمات في طالب العلم، وخاصة في مثل هذه الأوقات، مع كثرة الشر، وعدم الأخذ بآداب النبوة وأخلاقها، والهيشات والطيشان في الأسواق والطرقات والمجامع، فيشرع لطالب العلم أن يتخلق وأن يتأدب بهذه الآداب ما استطاع.
ومنها آداب واجبة، منها آداب مستحبة، وقد كان المتقدمون ربما وضع بعضهم كتابا خاصا في هذه الآداب، مثل ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله- له كتاب اسمه الجامع في السنن والآداب والأحكام والأخلاق، أو نحو هذا -رحمه الله- كذلك أيضا ابن عبد الهادي في المحرر -رحمه الله- ختم كتابه المحرر بكتاب الجامع.
وهذه الأحاديث التي ذكرها المصنف أحاديث مختارة بعناية؛ من جهة الأخذ بمجامع الأخلاق ومكارمها، ومعاليها، حتى يجتنب سفسافها ودنيئها.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي صدر به المصنف - رحمه الله- وهو عند مسلم: " حق المسلم على المسلم ست " وفي الصحيحين: « خمس تجب للمسلم على المسلم، إذا دعاك فأجبه، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا لقيته فسلم عليه »(2) وهذا فيه زيادة: « إذا استنصحك فانصحه »(1) والأحاديث في هذا ربما أتت في كثير من الأخبار بذكر ست أو خمس، مثل: « أعطيت خمسا »(3) في الصحيحين، يعني شبيه بهذا، وفي صحيح مسلم ست: « أعطيت ستا »(4) وفي حديث حذيفة: « فضلنا على الناس بثلاث »(5) وأحاديث في هذا الباب.
ولا تنافي؛ لأنه من باب مفهوم العدد كما يقولون، ولا مفهوم له عند الجمهور، أو أنه له مفهوم حال الإخبار، وإن كان هذا هو الصحيح من قولي أهل الأصول أن مفهوم العدد معتبر؛ لأن منه ما هو معتبر بالاتفاق، ومنه ما هو موضع خلاف.
لكن كان -عليه الصلاة والسلام- يخبر في زمان ثم بعد ذلك يكرمه الله -سبحانه وتعالى- ويزيده ويزيد أمته من الخصائص التي تميزهم عن الأمم قبلهم، وكذلك أيضا يزيدهم خصالا، ومكارم أخلاق يتحلون بها ويتخلقون بها، ولا كلفة فيها ولله الحمد، بل هي تدعو إليها الجبلة والفطرة والخلقة.
فغالب هذه المجامع، هذه الأخلاق والآداب؛ ليست من باب التكليف، بل هي في الحقيقة تدعو إليها الفطرة وتدعو إليها العقول السليمة، وإن كان كل ما في الشريعة لا يقول العقل: ليته أمر بشيء لم يأمر به، ولا يقول: ليته نهى بشيء لم ينه عنه، لكن هنالك أشياء يكلف بها ويؤمر بها، هنالك أشياء بطبيعته هو يحبها وتدعوه نفسه إليها؛ لأن الله جبله عليها وركبه عليها سبحانه وتعالى.
فلهذا تجتمع جبلة الفطرة وأمر الشارع، فما أحسن اجتماعهما والتئامهما، فيعمل ويؤجر بما فطره الله -سبحانه وتعالى- عليه، وجبله عليه، فلله الحمد أولا وآخرا.
وهذا الحديث كما تقدم ربما جاء في بعض الأخبار زوائد تدل على جمل من الأخلاق يشرع للمكلف أن يتخلق بكل خلق جميل، وهذه الأخلاق بينها العلماء وتكلموا عليها، وفيها من المسائل وفيها من شريف العلم الشيء الكثير، لكن حسبنا أن نشير إلى ما جاء في كلامه -عليه الصلاة والسلام- فهو شاف كاف في المقام.
"إذا لقيته فسلم عليه" وهذا من أعظم الخصال، وهو السلام، والسلام اسم من أسماء الله كما ثبت بذلك الخبر، من حديث أبي هريرة: « السلام اسم من أسماء الله فافشوه بينكم »(6) وجاءت الأخبار الكثيرة بالأمر بإفشاء السلام.
في الصحيحين من حديث البراء بن عازب: « أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع؛ بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبراء المقسم »(7) والشاهد قوله: "إفشاء السلام" أمر بإفشاء السلام.
وثبت هذا المعنى في عدة أخبار من حديث البراء أيضا عند أحمد، ومن حديث عبد الله بن عمرو: « أفشوا السلام »(
فلهذا جاءت الأخبار كالعيان في الأمر بإفشاء السلام، والأحاديث في هذا كما تقدم كثيرة.
ولهذا أمر بالسلام إذا لقي أخاه، وأمره بالسلام إذا فارق أخاه، وأمره بالسلام إذا لقي جماعة، بل إنه يشرع له أن يسلم على أخيه كلما لقيه ولو فرقت بينهما شجرة أو حجر، كما روى أبو داود بإسناد جيد أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: « إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حال بينهما شجرة أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه »(9) وفي حديث أنس -رضي الله عنه- قال: « كنا إذا كنا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- نمشي فإذا فرق بيننا جدار أو شجرة، فلقي بعضنا بعضا سلم بعضنا على بعض »(6) .
وهذه السنة، ربما ضعف كثير من الناس عن العمل بها، والواجب هو الاجتهاد فيها، بل ربما استثقلها بعض الناس إذا أكثرت عليه من السلام، مع أن السلام كله خير وهدى وصلاح، فيه كثرة الخير، وكذلك يحصل به من الخصال الدينية والدنيوية الشيء الكثير، وهو تحية آدم وذريته، هو التحية، وهو التحية لبني آدم في الدنيا، وهي تحيتهم في الجنة: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ﴾(10) .
ثم السلام الصحيح أنه واجب ابتداء، أما رده فهذا محل اتفاق من أهل العلم: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾(11) فالرد واجب، والفضل مستحب، العدل واجب في كل شيء، يجب، وأعظم العدل أن ترد مثل تحيته، أما الفضل والزيادة فهو سنة، مستحب.
وفي هذا الحديث المشهور عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهما في أنه « لما قال جاره: السلام عليكم، قال: عشر، والآخر قال: عشرون، والآخر قال: ثلاثون »(12) الحديث بطوله، ولهذا كان ابتداؤه على الصحيح واجبا بظواهر الأوامر: ست حق المسلم على المسلم.
ولهذا أوجب الفقهاء أمورا بنصوصٍ لا تصل إلى قوة هذه الأوامر أوجبوها، بل عليها جمهورهم، بل ربما حكي الاتفاق عليها، وهذه النصوص أولى أن يجب فيها، أن يجب السلام للأمر بها، ولهذا إذا كانت إجابة الدعوة واجبة وهي محل اتفاق من أهل العلم على خلاف بين وليمة النكاح وسائر الولائم، فالسلام من باب أولى أن يكون واجبا، أرأيت لو لقيت أخاك في طريق ولم تسلم عليه، ولم يسلم أحدكما على الآخر، فإنه يقع في قلبه من الوحشة والانكسار من كونك لم تسلم عليه، ما لا يقع فيما لو لم تجب دعوته، أنت لو لم تجب دعوته قد يعذرك، يقول: لعله كذا، يعذرك، لكن ما عذرك إذا لم تسلم عليه. مئونته سهلة، وكلام طيب وحسن، ما عذرك؟ ليس هنالك عذر. لكن لو غفل أو نسي فهذا أمر آخر، لكن الشاهد في الأمر بإفشائه كما تقدم.
" إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه" كذلك أيضا الدعوة وإجابة الدعوة، دعوة أخيك المسلم، وهذا ثبتت فيه الأخبار من حديث ابن عمر: « أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها »(13) وكذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: « شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنعها الفقراء »(14) وفي لفظ: « يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها »(15) .
وصرح في مسلم برفعه، أنه عليه الصلاة والسلام قال: « شر الطعام طعام الوليمة »(16) صرح بذلك، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر: « أجيبوها عرسا كان أو نحوه »(17) وجاءت في هذا أحاديث حديث زهير بن عثمان النميري من حديث عبد الله بن مسعود، « أنه أول يوم حق، وثاني يوم سنة، وثالث يوم سمعة ورياء، ومن سمع سمع الله به »(18) .
فهي واجبة من حيث الجملة، لكن خلاف الجمهور مع غيرهم هل هو عام في كل الدعوات أو هو خاص بدعوة الزواج، ولا شك أن عموم الأدلة يدل على وجوب إجابة الدعوة إلا من عذر.
« وإذا استنصحك فانصحه »(1) كذلك أيضا إذا استنصحك فانصحه، فالنصيحة واجبة إذا طلب النصيحة، قال -عليه الصلاة والسلام-: « الدين النصيحة »(19) رواه مسلم. عند أبي داود كررها: « الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة »(19) كررها ثلاثا. وفي حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه قال: « بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم »(20) قرن النصح بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وكذلك هي من خصال أهل الإيمان: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(21) هذه خصال أهل الإيمان، يتناصحون، يأمر بعضهم بعضا، وينهى بعضهم بعضا، فالنصيحة واجبة.
ثم الصحيح أن النصيحة واجبة ابتداء لظاهر الأوامر، إذا رأيت أخاك على أمر لله حق فيه عليك أو عليه؛ وجب عليك أن تنصحه؛ لأنه من عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كانت النصيحة في أمر مستحب فهي مستحبة، وإلا فهي واجبة، ولا يخلو أي واحد من نقص في تفريط في حق من حقوق الله، وكيف يزول النقص بغير نصيحة، لا يمكن، إذا لم ينصح بعضنا لبعض، أما إذا طلب النصيحة فإنها واجبة ولأنها لا مئونة فيها، دعاك إلى رشد ودعاك إلى خير، فيجب عليك أن تنصح له.
"وإذا عطس فحمد الله فشمته" سيأتي هذا أيضا الإشارة إليه في أخبار ستأتي في ذكر العطاس ووجوب التشميت على الصحيح لظواهر الأدلة الكثيرة في هذا الباب، وأنها من أعظم خصال أهل الإيمان التي يدعو بعضهم لبعض فيها.
" وإذا مرض فعده " كذلك إذا مرض فعده؛ لأنه من حق المسلم على المسلم « خمس تجب للمسلم على المسلم »(2) في حديث أبي موسى في صحيح البخاري: « عودوا المريض، وفكوا العاني، وأطعموا الجائع »(22) .
وكذلك حديث البراء بن عازب: « إذا مرض فعده »(23) قال: كان يأمرنا. وأصل الأوامر على الوجوب هذا هو الصحيح من كلام أهل الأصول. إذا جاء أمر في الشريعة فالأصل فيه الوجوب.
أما قول بعضهم: إن ما كان في مال الإنسان وفي حقه الذي يتصرف فيه فإنه لا يجب، وما كان من باب الأدب فلا يجب. فهذه قاعدة ضعيفة مخالفة للأدلة الصحيحة، بل من الآداب ما هو واجب بالاتفاق، مثل بعض آداب الخلاء، والنصوص تدل على هذا مثل بعض آداب الأكل في النصوص، لا فرق فيها في الوجوب في الأحكام وكذلك في الآداب، بل ربما كانت الآداب أشد؛ لأن في الغالب أن الآداب تتعلق بعلاقة المكلف مع الآخرين، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يأمر بها، ولم يستثن شيئا.
ولهذا نص الشافعي -رحمه الله- في بعض كلامه في بعض رسائله في كتاب الأم، على أنه يجب مثل هذه الأشياء، بل نص -رحمه الله- على أنه لا يجوز الأكل من أعلى القصعة، من أعلى الطعام، حديث ابن عباس: « كلوا من حواليها، ودعوا ذروتها؛ يبارك الله فيها »(24) وقال: إنه لا يحرم الطعام، لو أكل من أعلاها، لا أقول إنه يحرم لكنه أساء، وبين أنه يجب أنه يجب ذلك وأنه واجب عليه.
وقد أحسن الشافعي -رحمه الله- لكن تجد أصحابه لا يأخذون بها مع أنه في كتاب الأم وهو من الكتب المتأخرة من القول الجديد، وأنت إذا تأملت أقوال أهل العلم المتقدمين تجد أن الأئمة الكبار -رحمة الله عليهم- في مثل هذا على ما جاءت به ظواهر النصوص، وترى المتأخرين يتأولون ويحملون على أمور ومحامل هي موضع نظر.
وهكذا عن الإمام أحمد -رحمه الله- ولهذا ترى هذا في كلام الصحابة -رضي الله عنهم- حينما يبطلون ويحرمون العقود بظواهر الأمور، إذا أبطلوا شيئا أو حرموا شيئا قالوا: نهى عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا يقولون: سمعنا وأطعنا.
وكذلك أيضا فالمقصود مثل ما تقدم في مسألة "إذا مرض فعده" لكن أحكام العيادة لها أحكام كثيرة، وهذا من حيث الجملة في حكم العيادة " وإذا مات فاتبعه" وهو اتباع جنازة الميت، وهو حق لأخيك المسلم عليك، وإذا كان لم يقم به أحد غيرك فإن هذا واجب متعين، مثل ما نقول في غسله إذا لم يوجد من يغسله، أو في كفنه إذا لم يوجد من يكفنه، وهكذا، نعم.