احفظ الله يحفظك
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوما فقال: « يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله »(1)
رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
نعم، وهذا الحديث حديث جيد وله طرق وفيه ما كان عليه النبي -عليه السلام- من الرفق في قوله: يا غلام، والعناية بالغلمان والصغار، وكان كما قال أنس وغيره: من أرحم الناس بالعيال. صلوات الله وسلامه عليه.
وكان إذا ذهب إلى الأنصار كان يأتيه الصبيان، وكان يمسح رءوسهم -عليه الصلاة والسلام- وكانوا إذا صلوا الفجر يأتون بآنيتهم فيها الماء حتى يضع يده فيه -عليه الصلاة والسلام- ويضعوا وربما جاءوا في الغداة الباردة بالإناء البارد فيضع يده فيه -عليه الصلاة والسلام- حينما يأتي به الصبيان، وكان ربما أخذت الجارية بيده وقال: « يا فلانة انظري أي السكك شئت فأقض حاجتك »(2) وهذا أمر متواتر من هديه صلوات الله وسلامه عليه.
"يا غلام" مثل قول عمر بن سلمة « يا غلام سم الله »(3) وهكذا وقع لأنس في قصص عدة في أمره وإرشاده له، "احفظ الله يحفظك" هذا أمر « احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك »(4) وهذا الحفظ لله -عز وجل- أعظمه حفظ حقوقه وحدوده، وأعظمه حفظ التوحيد والإيمان، ثم يليه بعد ذلك أعمال البر من صلاة وهي رأس الأعمال البدنية، وكذلك الأعمال المالية، والمركب منها كالحج وما أشبه ذلك.
"احفظ الله يحفظك" فحفظ الله -عز وجل- هو بحفظ حدوده -سبحانه وتعالى- وهو رأسها، ومن حفظ الله -عز وجل- فإن الله يحفظه، وأعظم الحفظ هو الحفظ في الدين فمن حفظ حدوده -سبحانه وتعالى- واجتهد فإنه -سبحانه وتعالى- يحفظه، وأعظم الحفظ أن يحفظه في دينه.
ولهذا شرع للمسلم أن يكثر السؤال، سؤال الله العافية في الدين والدنيا، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، يكثر من سؤاله -سبحانه وتعالى- العافية والعفو في دينه ودنياه؛ لأن حفظ الدين هو المهم، فإذا حفظ الدين ما بعده أيسر، وفي حديث عمر رضي الله عنه: اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوا ولا حاسدا .
والحفظ الآخر هو حفظه في بدنه، وحفظه في ماله، وحفظه في أهله، فمن حفظ الله -عز وجل- حفظه في دينه وكذلك يحفظه سبحانه وتعالى في أهله، ويحفظه في دينه وفي بدنه وماله يحفظه سبحانه وتعالى، وربما أراد الله -سبحانه وتعالى- به الخير ورفع درجته وابتلاه وكانت عاقبته إلى خير في الدنيا، والآخرة، أو فيهما جميعا، أو في الآخرة.
المقصود أنه سبحانه وتعالى من حفظ حدوده وحقوقه، فإن عاقبته إلى خير، والعاقبة للمتقين، ومن ضيع حدود الله وحقوقه، فإنه يضره أقرب الناس إليه، وأحب الناس إليه يضرونه ويخالفونه، ومن حفظ حدود الله يسر الله له أمور خير.
بل في قصص كثيرة عن السلف، لما اجتهدوا في حفظ حدود الله حفظهم -سبحانه وتعالى- بل إنه -سبحانه وتعالى- جعل الوحوش في البرية حافظة لهم، وترعاهم، كما يروى عن سفينة مولى النبي -عليه الصلاة والسلام- كما روى الحاكم وغيره "أنه كان في سفينة فانكسرت بهم ثم خرج إلى جزيرة برية، فمر بهم الأسد، وكان قد تاه الطريق، فجاء الأسد يمشي معه وسفينة يمشي معه، حتى إذا سار مسافة وسفينة يمشي معه همهم همهمة كأنه يقول: هذا الطريق ثم سار" فجعل هذا الحيوان المفترس حافظا له، ومن ضيع حدود الله -عز وجل- سلط الله عليه أقرب الناس إليه.
لكن من كان على طريقة من الخير وحصل له فتنة في أهله أو ماله، فهو ذكرى وعبرة، ولهذا كان كثير من السلف يقول: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وفي خلق أهلي" نعم.
"وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" العبد لا يسأل إلا الله -عز وجل- ﴿ واسألوا الله من فضله ﴾(5) ولا يستعين إلا بالله -عز وجل- وإذا استعنت فاستعن بالله ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾(6) .
"إذا سألت فاسأل الله" يعني لا تسأل غيره -سبحانه وتعالى- بل سله وحده، واجعل سؤالك في جميع أمورك في دينك ودنياك، وإن استطعت أن لا تسأل أحدا فهذا هو المرتبة العليا.
وقد بايع النبي -عليه الصلاة والسلام- جمعا من أصحابه، كما روى مسلم عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- أنه -عليه الصلاة والسلام- « بايع جمعا من أصحابه، وأسر لهم كلمة خفية، أن لا تسألوا الناس شيئا »(7) رواه مسلم.
وبايع خصوص أصحابه، بايع أبا بكر وأبا ذر وثوبان أن لا يسألوا الناس شيئا، قال عوفٌ -رضي الله عنه-: "فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه، بل ينزل فيأخذ سوطه".
هكذا كانوا؛ لأنهم أرادوا أن يجعلوا قلوبهم لله -عز وجل- ولا يبقى فيها منة لأحد، مع أنه من الأمور المباحة، لكنهم أخذوا بما وصاهم به -عليه الصلاة والسلام- وبقوا على ما عاهدوا عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
ولهذا أصل السؤال للناس منهي عنه، أصل سؤال الناس منهي عنه، ويحرم ولا يجوز؛ لأن فيه ذلة للنفس، وفيه إيذاء للمسئول، وفيه أيضا هضم لأمر من حقوقه سبحانه وتعالى، ذلة للنفس، وتذلل لغير الله، وإيذاء للمسئول، ثلاث مفاسد، ثلاثُ مفاسد، فلهذا كان الأصل فيه التحريم والمنع وهذا جاءت فيه أخبار كثيرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في منع السؤال وأن لا يسأل الناس شيئا.
لكن من سأل حاجة من الحاجات التي يحتاجها فلا بأس، في الحديث عند أهل السنن « إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر -حديث سمرة، أو في أمر- لا بد له منه »(
.
في حديث في الترمذي: « إن كنت سائلا فاسأل الصالحين »(9) لكن أصل المسألة منهي عنه إلا حينما تكون المسألة حال ضرورة، فهذا لا بأس به، ولهذا في حديث أبي سعيد الخدري وحديث سهل بن حنظلية، ومن في معناه، جاء النهي عن المسألة إذا كان له ما يغديه وما يعشيه.
وفي حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: « من كان له خمسون درهما فسأل فقد سأل إلحافا، فقال: ثم عاد إلى بيته وكان أراد أن يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: للياقوتة -وهي فرس عنده- خير من خمسين درهما »(10) أو قال نحو ذلك.
وإذا استعنت فاستعن بالله ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾(6) فيستعين العبد ربه -سبحانه وتعالى- في كل شيء، في أمور دينه ودنياه، يستعين العبد ربه، ولا تكون الاستعانة الخالصة لله إلا بألا يسأل الناس شيئا.
وأعظم الاستعانة هو الاستعانة في أمر الدين، وقد أوصى النبي -عليه الصلاة والسلام- معاذ بن جبل أنه أمره أن يقول دبر كل صلاة: « اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك »(11) لأن من أعانه -سبحانه وتعالى- على شكره وذكره، فإنه يوفق ويسدد؛ ولهذا يسأل ربه -سبحانه وتعالى- ويعلم أنه لا حول ولا قوة إلا به -سبحانه وتعالى- نعم.