الرأي
"راهي حاكمة"
"راهي حاكمة".. كنا نسمعها لدى تجار العملة عندما ترتفع أو تنخفض قيمتها في السوق السوداء، ونسمعها عند السماسرة وتجار العقارات والأراضي عندما ينخفض العرض ويرتفع الطلب، ونسمعها كذلك في شهر رمضان عند مصاصي الدماء الذين يتاجرون في المواد الواسعة الاستهلاك ويبحثون عن الربح المناسباتي، كما سمعناها من بعض "الفنانين" عندما تأهل منتخبنا إلى المونديال، وراحوا يلهثون وراء الشهرة والربح السريع بإنتاج الأغاني الخاصة بالمناسبة.. ولكن "راهي حاكمة" اليوم انطلقت من أفواه الكثير من "أشباه" الإعلاميين والمبدعين والفنانين والمثقفين والمنتجين بمناسبة الاستعدادات للاحتفال بخمسينية استرجاع السيادة الوطنية، وبمناسبة إطلاق البث التجريبي للقنوات التلفزيونية الجديدة، وما قد تدره -في حسابهم- من مكاسب شخصية ومادية، بعدما سمعوا بأن الدولة خصصت 600 مليار سنتيم للاحتفال بخمسينية الاستقلال، وسمعوا بظهور قنوات تلفزيونية تحتاج إلى مهنيين وبرامج، فراحوا يلهثون وراء أصحابها من أجل المساومة على مناصب، والفوز بمشاريع إنتاج برامج فنية وثقافية ودرامية وغيرها، وراحوا يزايدون على بعضهم بعضا للظفر بالكعكة الكبرى..
الكل يتهامس "راهي حاكمة" ويجري يمينا وشمالا من أجل الحصول على نصيبه من "الطرطة"، وطغى التفكير المادي على التفكير العلمي، ولا أحد راح يسأل عن مصير الفضاء السمعي البصري في الجزائر، وكيف ستكون القنوات الجديدة ومضامينها وتوجهاتها؟ وكيف ستتعامل معها السلطة؟ وما مصير تعاملاتهم السابقة والتزاماتهم مع التلفزيون الجزائري؟
أما المتطفلون والانتهازيون الذين يدقون أبواب التلفزيونات ووزارات المجاهدين والثقافة والشباب والرياضة، فهم يفعلون ذلك دون أن يتساءلوا عما قدمناه للشعب على مدى خمسين عاما من الاستقلال، قبل أن يلهثوا وراء الظفر بمشاريع إنتاج برامج وحفلات وأفلام وثائقية بالمناسبة، فالكثير لايدرك معنى التضحية والحرية والاستقلال والكرامة، ولا أحد منهم يعرف المغزى من الاحتفال بذكرى عيد الشباب واسترجاع السيادة الوطنية على هذا الوطن الذي نتذكره عندما يتعلق الأمر بتقاسم الريع والربح، ونتنكر إليه عندما يكون بحاجة إلينا..
يأتي هذا في ظرف ميّزه حضور المديرة العامة لقناة "فرانس5" إلى الجزائر وتنشيطها ندوة صحفية عرضت فيها برنامج القناة الفرنسية خلال السنة بمناسبة خمسينية استقلال الجزائر، وكشفت فيها عن برامج وأفلام وثائقية ولقاءات ستبثها القناة لتقترب من المشاهد الجزائري وتروي تاريخ الجزائر الفرنسية من وجهة نظر "قومها"، في إطار مشروع الدولة الفرنسية التي تسوق لفرنسا التي شيّدت وبنت الجزائر ونشرت الحضارة فيها، وليس لفرنسا الاستعمارية المجرمة التي قتلت نساءنا ورجالنا ونهبت خيرات وطننا..
صحيح أن للفرنسيين تاريخا مشتركا مع الجزائر على مدى 132 عام، ولكن تاريخهم أسود وتاريخنا ناصع، وتاريخهم مخجل وتاريخنا مشرف، وموتانا شهداء وموتاهم مجرمون. غير أن اهتمامهم بهذا التاريخ أكثر منا سيساهم في تبييض صورة فرنسا في أعين الأجيال الصاعدة، وتلك هي الطامة الكبرى التي يغفل عنها هؤلاء "الأشباه" الراكضون وراء الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الموارد المالية المخصصة لإقامة النشاطات الفنية والثقافية والرياضية، وتلك المخصصة لإنتاج الأفلام والبرامج التلفزيونية، دون إدراك ووعي بالغاية من الاحتفال بالذكرى، ودون معرفة بالحاجات الفكرية والثقافية والعلمية للأجيال الصاعدة..
"راهي حاكمة" و"طاڤ على من طاڤ" و"خلي برك" و"طبّع برك" و"أزدم القدام" هي المصطلحات الأكثر تداولا عشية الاحتفال بالذكرى الخمسين لاسترجاع السيادة الوطنية على أغلى الأوطان، وفي عصر القنوات التلفزيونية الجديدة والتقنيات الحديثة والحاجات المتزايدة لأبنائنا إلى فضاءات أخرى، وهي الثقافة التي يزرعها فينا الساسة وأشباه المثقفين والمبدعين بجهلهم وطمعهم وأنانيتهم، ويحصدها جيل لا ذنب له سوى أنه يحب وطنه ويريده وطنا ككل الأوطان..