ولد نور الدين محمود في
17 شوال 511هـ/ فبراير 1118م، أي بعد حوالي عشرين عامًا من سقوط القدس في أيدي
الصليبيين، وقد
تربى نور الدين على
القرآن والتقوى وحب الجهاد، فوالده هو عماد الدين زنكي بن أقسنقر أمير الموصل وحلب،
وصاحب البلاء الحسن في جهاد الصليبيين، وهو الذي
فتح الرها، وأسقط المملكة الصليبية التي قامت
فيها، واشتهر بعد مقتله بلقب 'الشهيد'، وجده أقسنقر كان واليًا على الموصل والجزيرة الفراتية وحلب، وخاض المعارك ضد
الصليبيين في شمال بلاد الشام، وعرف بالصلاح والتقوى.
وضع
نور الدين هدفًا له منذ الطفولة، وهو أن يحرر المسجد الأقصى وبلاد المسلمين من
الصليبيين، وأخذ يُعِدُّ نفسه، ويسعى لتحقيق هذا الهدف الكبير، وشاء الله أن يتولى حلب وما يتبعها
بعد استشهاد أبيه سنة 541هـ/ 1146م، فقضى عمره في جهاد الصليبيين،
واستطاع خلال 28 سنة - هي مدة حكمه - أن يحرر حوالي 50 مدينة وقلعة، وفي
عام 569هـ/ 1173م،
كان نور الدين قد أعد عدته
للهجوم النهائي على بيت المقدس وتحريره، حتى إنه قد جهز منبرًا جديدًا رائعًا للمسجد الأقصى
ليوضع فيه بعد النصر والتحرير، وراسل في ذلك عامله على مصر صلاح
الدين الأيوبي، الذي تلكأ بسبب الظروف الخاصة التي تواجهه في مصر، ولم
يَرْضَ نور الدين بذلك التأخر، فقرر الذهاب إلى
مصر وترتيب أمورها بنفسه، إلا أن المنية عاجلته، فتوفي رحمه الله في 11 شوال 570هـ/ 15 مايو 1174م، فأكمل بعده المهمة صلاح
الدين، وحرر الأقصى في 27 رجب 583هـ/ 2 أكتوبر 1187م.
وتلكم بعض الخصال التي جعلت نور
الدين محمود ينجح خلال مدة حكمه في تحرير معظم بلاد
الشام من الاحتلال الصليبي، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من تحرير بيت المقدس:
أولاً: كان قائدًا ربانيًا، عرف بتقواه وورعه، فقد 'كان حريصًا على أداء السنن، وقيام الليل بالأسحار، فكان ينام بعد
صلاة العشاء، ثم
يستيقظ في منتصف الليل، فيصلي
ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر، كما كان كثير
الصيام، وتميز بفقهه وعلمه الواسع، فلقد تشبه بالعلماء، واقتدى بسيرة السلف الصالح، وكان عالمًا بالمذهب الحنفي، وحصل
على الإجازة في
رواية الأحاديث، وألف كتابًا عن
الجهاد'، يصفه ابن كثير فيقول: 'ولم يُسمع منه كلمة فحش
قط في غضب ولا رضى، صموتًا وقورًا... ومجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين
والمشورة في الجهاد'، ويثني عليه ابن الأثير فيقول: 'طالعت تواريخ الملوك
المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء
الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين'.
ثانيًا: كان زاهدًا أمينًا، فقد 'كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه،
من غير اكتناز، ولا استئثار بالدنيا'، وعندما شكت له زوجته الضائقة
المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص، وقال: 'ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم، ولا
أخوض في نار جهنم
لأجلك'.
ثالثًا: كان متواضعًا محبوبًا، قال له الفقيه قطب الدين النيسابوري
يومًا: 'بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام، فإن أصبت في معركة لا يبقى
أحد من المسلمين إلا أخذه السيف، فقال له نور الدين: يا قطب الدين!! ومن
محمود حتى يقال له هذا؟ قبلي من حفظ البلاد والإسلام، ذلك الله الذي لا إله إلا هو'. وبعدما كثرت فتوحاته، واتسعت دائرة
سلطانه، جاءه تشريف من الخلافة العباسية تضمن قائمة طويلة
جليلة بالألقاب التي يُذكر بها
عندما يدعى له على منابر بغداد،
ليعممها على بقية البلدان، فأوقفها،
واكتفى بدعاء واحد هو: اللهم
وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي.
ورفع أحد أفراد رعيته قضية
عليه، فاستدعاه القاضي، فقال: 'السمع والطاعة.. {إِنَّمَا
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، إني جئت ها هنا امتثالاً لأمر الشرع'.
وفي مرة أخرى دُعي للقضاء
فاستجاب، ولما ثبت أن الحق مع نور الدين، وهب لخصمه ما ادعاه عليه.
رابعًا: كان حريصًا على تطبيق أحكام الشرع، 'وأشهى شيء عنده كلمة حق
يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتبعها'، وقد ألغى جميع الضرائب التي تزيد عن الحد الشرعي، بالرغم من الدخل الكبير التي تدره،
والحاجة الماسة
إليه لأغراض الجهاد، وكان يقول:
'نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق، أفلا نحفظ الدين
ونمنع ما يناقضه'.
خامسًا: كان يُكرم العلماء، ويبالغ في ذلك، فبالرغم من أن الأمراء
والقادة كانوا لا يجرءون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه، فإنه كان إذا دخل عليه العالم الفقيه، أو الرجل الصالح، قام
هو إليه، وأجلسه،
وأقبل عليه مظهرًا كل احترام
وتوقير، وكان يقول عن العلماء: 'هم جند الله، وبدعائهم نُنصر
على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإن رضوا منا ببعض
حقهم فلهم المنة علينا'.
ويُروى أنه لما رأى أصحاب نور
الدين كثرة خروجه للجهاد وإنفاقه عليه قال له بعضهم: 'إن لك
في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية
والقراء، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك وقال: 'والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما
ترزقون وتنصرون
بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم
يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها
على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء لهم
نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟!' وكان يسمع نصيحتهم ويجلها
ويقول: 'إن البلخي إذا قال لي: محمود، قامت كل شعرة في جسدي هيبة له ويرق
قلبي'.
وكانت بلاد الشام خالية من
العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقرًا للعلماء والفقهاء والصوفية.
سادسًا: كان مهتمًا بأحوال
المسلمين، فلقد عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء
الفقراء، وبناء المستشفيات ودور الأيتام والأسواق والحمامات والطرق العامة.
سابعًا: كان أبيًا عزيزًا شهمًا
شجاعًا يغار على حرمات المسلمين، ولا يهدأ له بال حتى
ينصرهم وينتقم لهم، فلم يكد يمر شهر على استلامه الحكم حتى هاجم الصليبيون الرها ظنًا منهم أن الحاكم الجديد ضعيف،
فهاجمهم وقتل ثلاثة
أرباع جيشهم. وفي سنة 558هـ
هاجم الصليبيون جزءًا من جيشه على حين غفلة، فأكثروا فيهم
القتل، ونجا نور الدين في اللحظة الحاسمة وهرب، وقد عرفت هذه المعركة بـ'البقيعة'،
فقال: 'والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام'، وعرض
الصليبيون عليه الصلح فرفض، وكان انتقامه منهم رهيبًا في معركة حارم في 11
أغسطس 1164م، إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر، وكان بين
الأسرى عدد من كبار أمرائهم وقادتهم.
ثامنًا: كان لحوحًا في الدعاء،
ولا يرجو النصر إلا من الله، فعندما رأى جموع الصليبيين
الهائلة قبيل معركة حارم، انفرد بنفسه تحت تل حارم وسجد لله ومرَّغ وجهه
وتضرع قائلاً: 'يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك،
فانصر أولياءك على أعدائك'.. 'إيش فضول محمود في الوسط، مَن محمود الكلب
حتى يُنصر؟!!' يحقر نفسه ويتذلل إلى الله سبحانه.
رحم الله نور الدين، ورزق أمتنا
أمثاله من القادة والمجاهدين، ليحرروا العراق وفلسطين، وكل شبر مغتصب من أرض المسلمين.