في قلب دمشق القديمة ضريح حجري مهيب لايبعد عن الجامع الأموي أكثر من ثلاث مئة متر. هذا الضريح يحوي مدفنين: واحد للسلطان المملوكي الظاهر بيبرس الصالحي والآخر لابنه السلطان بركة خان. وهو جزء من مبنى محدث وإن كانت أصوله أيوبية يعرفه جيداً الدمشقيون القدامى والمؤرخون الباحثون، ألا وهو المدرسة الظاهرية التي تحمل اسم السلطان الظاهر بيبرس والتي كانت حتى عهد قريب المكتبة التراثية الأولى في سورية قبل أن تنقل محتوياتها إلى مكتبة الأسد الوطنية. الضريح نفسه، الذي رمم أكثر من مرة في السنين العشرة الأخيرة والذي يقبع مقفلاً على الدوام لايزوره أحد، عبارة عن غرفة مربعة تغطيها قبة عالية ويحيط بجدرانها الأربعة الداخلية زنار من الفسيفساء شبيه إلى حد كبير بفسيفساء الجامع الأموي. في وسط الغرفة مصطبة يعلوها مسنمان مرخمان لازخرفة ولاكتابة عليهما يبدو عليهما أنهما مرممين منذ فترة ليست بالبعيدة ولكنهما يدلان بالتأكيد على قبري بيبرس وبركة خان. فكيف اجتمع الأب والابن في مدفن واحد في دمشق؟ لذلك قصة فيها عبر كثيرة وإن كانت مجهولة عموماً مع أن الظاهر بيبرس بطل مشهور من أبطال التاريخ الإسلامي كتب عنه وعن إنجازاته الكثير وأنتج عنه مسلسل تلفزيوني عام ٢٠٠٥ قدم له تاريخاً مشوهاً إرضاءً لرغبة جامحة في تقديمه بطلاً قومياً عظيماً لاتشوب سيرته شائبة.
الظاهر بيبرس هو خامس سلاطين المماليك (حكم بين ١٢٦٠ و١٢٧٧) وإن كان المؤسس الفعلي لدولتهم التي حكمت مصر والشام لأكثر من ٢٥٠ سنة (١٢٥٠-١٥١٧). وهو أيضاً واضع أسس النظام المملوكي الذي اعتمد على تدريب وتعليم عبيد فتيان يجلبون من آسيا الوسطى والقفقاس وتحريرهم بعد إتمام تدريبهم الذي يستمر عادة إثنى عشرة سنة لكي يتسلموا منصباً في الجيش المملوكي ويصعدوا في الرتب إلى أعلى الدرجات بما في ذلك رتبة السلطان. هذا النظام المحكم والمغلق على نفسه اعتمد على قوة وانضباط وتلاحم المماليك عرقياً ولغوياً ودينياً وترابط مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية للحفاظ على سيطرتهم المطلقة على المجتمع ومقدراته عن طريق احتكارهم لكل مناصب الدولة المهمة خصوصاً منها العسكرية التي لم يسمح لأي كان من غير طائفة المماليك بتقلدها. ونجح هذا النظام نجاحاً باهراً في المئة سنة الأولى ثم تضعضع وابتدأ بالانحلال ولكنه قاوم عناصر التآكل ولم يسقط إلا بعد أكثر من مئة عام على أيدي العثمانيين القادمين من الشمال بأسلحتهم الحديثة وتنظيمهم العسكري المتطور.
الظاهر بيبرس أيضاً بطل من أبطال الأمة. فهو قد برز أولاً كمملوك وكأمير من خلال دوره الحاسم في غزوتي لويس التاسع لمصر عام ١٢٤٩ التي انتهت بمعركة المنصورة وغزوة المغول لسوريا بقيادة هولاكو البطاش عام ١٢٦٠ التي أوقفها المماليك في معركة عين جالوت. ثم قضى جل سلطنته في جهاد لايفتر ضد الصليبيين في فلسطين الذين تمكن من استرجاع العديد من المدن والحصون منهم، وضد المغول الذين كانوا يتحينون الفرص دوماً لاحتلال سورية ولكنه صدهم عن ذلك مراراً، بالإضافة إلى قتاله للاسماعيلين في حصونهم على الجبال السورية والأرمن في دولتهم المتاخمة لسلطنته من الشمال وإزالته لكلا التهديدين. وهو أيضاً من أحيا الدولة العباسية في القاهرة بأن عين فرداً من العائلة العباسية خليفةً بعد أن كان تائهاً في البادية السورية بعد فراره من المغول الذين دمروا بغداد وقضوا على الخلافة فيها عام ١٢٥٨ مما سبب أزمة وجودية عميقة للعالم الإسلامي كله الذي اعتاد على وجود خليفة على رأس السلطة الإسلامية لأكثر من ستمائة سنة. ولكن بيبرس استخدم الخليفة الجديد كغطاء شرعي لسلطنته القائمة أساساً على القهر بأن جعل سلطته اسمية فقط وحوله إلى مسوغٍ لحكمه وحجة ضد أعدائه.
لم يكن بأس الظاهر بيبرس شديداً على الأعداء فقط، بل امتد تشدده على نفسه وعلى خاصته و طبعاً على الرعية أيضاً. فهو كان وفق مؤرخيه وكتاب سيرته حازماً، غضوباًً، متطلباً على نفسه وعلى غيره أيضاً، وسريعاً إلى العقاب الشديد والبتار أحياناً وله في ذلك قصص كثيرة، لعل أوجعها هي قصة اغتياله ومجموعة من الأمراء لسلطانه قطز بطل عين جالوت الحقيقي وحلوله محله واستخدامه لنفوذه كسلطان فيما بعد لتعفية آثار قبر قطز. وكان بيبرس إلى ذلك شكاكاً في مماليكه وأمرائه، مراقباً دائماً لتحركاتهم وتصرفاتهم، يغير مناصبهم باستمرار لكي لايتمكنوا فيها، ويلقي القبض عليهم ويسجنهم طويلاً لأدنى شبهة وأحياناً يقضي عليهم إما إعداماً أو غيلةً. وهو بذلك قد تمكن من الحفاظ على كرسي الحكم لفترة طويلة نسبياً، ومات، على رأي غالبية المؤرخين المملوكيين، بسبب خطأ ارتكبه هو نفسه. فهو قد عاد سنة ١٢٧٧ إلى دمشق بعد غزوة موفقة ضد المغول في بلاد الروم وكان قد قرر اغتيال واحد من بقايا البيت الأيوبي في بلاده يدعى بالملك القاهر فدعاه لجلسة شرب القمز (خمر لبن المهرة الذي كان الأتراك والمغول يستطيبونه) وأمر ساقيه بأن يسقي الملك القاهر من كأس مسموم. ولكن الساقي سها عن الكأس بعد أن شرب منها الملك القاهر وملأها ثانية وقدمها للملك الظاهر من دون تنظيفها من السم. فانقلب السحر على الساحر ومات الظاهر بما دبره على غيره، "ودين بما دان" على قول المؤرخ الأمير بيبرس المنصوري.
مع أن الظاهر بيبرس هو من وضع أسس النظام المملوكي العسكري الحازم وجعله الطريق الوحيد للصعود إلى ذرى السلطة، فهو لم يسلم من الميل الطبيعي لتفضيل ابنه البكر الملك السعيد محمد بركة خان على أصحابه من أمراء المماليك لكي يخلفه في السلطنة. وعلى الرغم من أنه أحاط نفسه بمجموعة من الأمراء الكبار الذين ساندوه في بداية حكمه والذين كان كل منهم ملكاً صغيراً بمماليكه الكثر وثروته الهائلة التي جمعها من الإقطاعات والامتيازات، فإنه سرعان ماغّير أسلوبه في التعامل معهم بعد تعيينه ابنه كولي عهد له عام ١٢٦٤ والصبي لما يتجاوز الرابعة من عمره. فهو قد قدم بركة خان عليهم وعينه على رأس وظائف مهمة في الدولة انتهت بأن عينه سلطاناً مشاركاً وهي بدعة لم تعرف من قبل. وأخذ العهود والمواثيق من أمرائه كلهم لقبول ولايته وقمع من شك بإخلاصه أو رأى منه طموحاً زائداً وسجنه. ثم قام بيبرس بتزويج بركة خان بابنة الأمير الكبير قلاوون الألفي وهو أحد أكابر المماليك الصالحية من رفاقه القدامى وأحد أهم المتنفذين في الدولة ليضمن ولاءه وولاء الأمراء الصالحية. ولكنه في ذلك خالف قاعدة وضعها هو نفسه واستخدمها أصلاً في الوصول إلى السلطة، ألا وهي قاعدة رفض التوريث في النظام المملوكي وإعطاء العرش لأقدر الأمراء الكبار عند وفاة السلطان أو قتله.
وهكذا وصل بركة خان للسلطنة عام ١٢٧٧ في جو مشحون واضطر لإخفاء نبأ وفاة أبيه فجأة في دمشق، ودفنه لاحقاً فيها، ليتاح له ترتيب أمور الوراثة. وساعده في ذلك أمراء أبيه من المماليك الظاهرية الذين شكلوا الثقل الموازن لنفوذ الأمراء الصالحية الكبار من أصحاب الظاهر بيبرس وبشكل خاص الأمير القدير والمحنك بيليك الخازندار الذي كان مستودع سر الظاهر بيبرس والذي رتب الأمور لبركة خان ولكنه مات فجأة بعد أشهر قليلة من وفاة معلمه بيبرس في ظروف غامضة، وقيل أن بركة خان نفسه دس له السم لخوفه من تعاظم نفوذه. على حين قبل الأمراء الصالحية بالأمر الواقع وقبعوا يتنظرون ريثما تصفى الأجواء ويتاح لهم الاتفاق على أي أمير كبير منهم سيزيح بركة خان ويجلس مكانه على العرش على عادتهم. ولم يدرك بركة خان، الفتى الذي لم يتجاوز التاسعة عشر عند اعتلائه سدة العرش، المخاطر التي تتهدد عرشه ولم يتخذ مايكفي من الاحتياطات لمواجهتها. فهو على الرغم من حسن شكله وشبابه وسخائه وقلة أذاه مما جعل العامة تحبه، لم يتمتع بما تمتع به أبوه من دهاء وحنكة وسياسة، ولم يحسن اختيار أمرائه المقربين، بل أحاط نفسه بمجموعة من الأمراء الخاصكية صغار السن والأغرار أيضاً والذين تربوا معه في المكتب. وتخبط بركة خان في قراراته كثيراً محاولاً تقديم خاصكيته وإبعاد أمراء أبيه من الصالحية والظاهرية سوية، وفشل في ذلك فشلاً ذريعاً. وقد استغل هؤلاء الأمراء الصغار نفوذهم الطارئ للصعود والثراء بشكل اعتباطي ونزق مما زاد من نفرة الأمراء الكبار من السلطان.
إنفجرت الأمور في وجه بركة خان بعدما تمرد نائب دمشق عليه وخرج عن طاعته في شباط ١٢٧٩. وتدهورت الأمور بسرعة عقب ذلك وتحالف جمع كبير من الأمراء الصالحية والظاهرية ضد السلطان وخاصكيته. وانتهت الأمور بعد عدة مناورات إلى أن وجد بركة خان نفسه محاصراً في قلعة القاهرة وقد انفض معظم أمرائه من حوله. فاضطر عندئذ للانصياع لرأي الأمراء الكبار وعلى رأسهم حموه وأبو زوجته قلاوون الألفي والتنازل عن العرش والذهاب منفياً إلى قلعة الكرك في الأردن في آب ١٢٧٩. ورتب الأمراء لأخيه الصغير بدر الدين سلامش الذي لم يتجاوز عمره السبع سنوات لكي يرقى العرش بعده. ولكن الأمير القوي قلاوون، الذي نصب نفسه أتابكاً (أي وصياً) على سلامش مالبث أن أزاحه عن العرش بعد ثلاثة أشهر واعتلاه مكانه بعد أن رتب أمور المملكة لمصلحته. ونفي سلامش والأخ الثالث خضر إلى الكرك حيث كان أخوهما الأكبر بركة خان منفياً قبلهما. ولم يلبث بركة خان أن توفي في الكرك بعد أشهر قليلة في ظروف غامضة أيضاً عن عمر لايتجاوز الواحد والعشرين. وقد سرت شائعات في القاهرة ودمشق بأن حموه قلاوون قد بعث إليه بمن دس له السم لكي يزيحه من الطريق، مع أن قلاوون قد أظهر حزناً شديداً عليه وجلس للعزاء فيه أياماً في القاهرة. وانتقلت السلطنة من الأسرة الظاهرية إلى الأسرة القلاوونية حيث استقرت لأكثر من ثمانين عاماً تناوب خلالها على العرش خمسة عشر سلطاناً من أولاد قلاوون وأحفاده وأحفاد أحفاده قبل أن ينزعهم أمير قوي آخر هو برقوق ويقضي على سلالتهم بطريقة شبيهة جداً بمافعله قلاوون من قبل.
بعد موت بركة خان في قلعة الكرك، نقلت والدته جثمانه إلى دمشق حيث دفنته إلى جانب أبيه الظاهر بيبرس في القبة التي كان هو نفسه قد أنشأها من دون أن يتنبأ بأنه سينتهي بعد فترة وجيزة مدفوناً فيها. ومن سخريات الأقدار أن المستولي على العرش قلاوون هو من زخرف المدفن والمدرسة وأضاف زنار الفسيفساء الرائع والرخام المزوق المنمنم حول القبة وزاد من أوقافها وأوقاف المدرسة الملاصقة لها ورتب فيها دروساً وقراءاً. ولعله فعل ذلك وفاءاً لذكرى صديقه بيبرس أو دفعاً للتهم بأنه هو من قضى على الأسرة الظاهرية أو حتى كفارة عن ذنبه في إقصاء بركة خان عن العرش وربما قتله أيضاً. وقد تفوق قلاوون في ذلك على الظاهر بيبرس في أنه رحم ذكراه وذكرى ابنه، على حين حاول الظاهر بيبرس إخفاء كل أثر لقبر سابقه السلطان قطز. ولكن قبة الظاهر بيبرس وبركة خان، على الرغم من متانة بنائها وجماله، لم تدخل الذاكرة الجمعية للدماشقة كما دخلته قبتي سلطانين لسابقين لعبا أيضاً أدواراً مصيرية في القضاء على الصليبيين، نور الدين ابن زنكي وصلاح الدين الأيوبي. فهذان السلطانان مازالا يحتلان مكاناً دافئاً في وجدان الدماشقة والأمة العربية بشكل عام. ومازال قبراهما، اللذان لايبعدان كثيراً عن القبة الظاهرية، يزاران حتى اليوم بعد مضي أكثر من ثماني مائة عاماً على وفاتهما. ومازال الزائر لأي من هذين المدفنين اليوم يجد دوماً أناساً عاديين بسطاء يقرأون الفاتحة على أرواح هذين القائدين البطلين. على حين تقبع القبة الظاهرية مقفولة لايزورها إلا مؤرخي الفن الذين يأتون لأجل الفسيفساء وبالكاد ينتبهون للقبرين المتلاصقين في وسطها. فهل الفرق في الذكرى نابع من الفرق في الأخلاق وفي التعامل مع الناس حيث عُرف عن نور الدين وصلاح الدين تواضعهما وتدينهما ودماثتهما مع الرعية على حين عرف عن بيبرس قسوته وحزمه على الرغم من أنهم ثلاثتهم أبطال الجهاد ضد الصليبيين؟ أظن ذلك، فذاكرة الشعوب منصفة وطويلة الأمد.