مصطفى هميسي
ينبغي أن ننتبه أن بناء دولة المؤسسات ودولة القانون ودولة المواطنة، غير ممكن من دون ''بناء'' المواطن الذي يبني هذه الدولة.
إن
''الشغور''!! الذي أقصده في الإنسان هو بالخصوص غياب القضية. إنه إنسان
القابلية للاستبداد وهو الإنسان العازف عن الاهتمام بأمره، وفق التعبير
القرآني، ''.. وأمرهم شورى بينهم''، وهو الإنسان الذي أفسده زمن الرداءة
وعمي القلوب زمن سطوة الأوهام على الأحلام وسطوة الخرافات على العقل.
هذا
الإنسان ما زال أقوى شيء فيه هو القابلية للاستبداد. ومادام هذا الإنسان
هو المسيطر فذلك يعطل بناء دولة المؤسسات. ويعجبني جدا ذلك الوصف الذي
استخدمه مالك بن نبي عند حديثه عن ''إنسان ما بعد الموحدين''. إنه يضع
فاصلا نفسيا وفاصلا تاريخيا وحتى فاصلا أخلاقيا بين مرحلتين وإنسانين. فما
بعد الموحدين برأيه وخلاصته، يمثل إنسانا مهزوما وإنسانا خرج من الحضارة.
إنه إنسان بلا معالم وبلا قيم فاعلة غابت عنه القدرة والقدوة.
ولكن ما
الذي جعل الإنسان ''شاغرا'' إلا من أوهام المال السهل الخرقاء الجاهلة وما
الذي جعله خانعا لسلطانه وراضيا باستبداده وغافلا عن أخلاقه وعن قضاياه
وحتى عن أحلامه؟
قد نقول تفاديا للجدل إنها عوامل متضافرة ومعقدة، بقايا الانحطاط وسياسات الاستبداد والإفساد وغيرها كثير.
لكن
لا بد من تفادي فهم الموضوع على أننا أمام ''حالة (cas) مرضية''، لا نحن
أمام ''حال (état) سوسيولوجية'' وهو ما يعني أنها أكثر تعقيدا أولا ثم
أنها ثانيا حصيلة تفاعل عوامل عديدة، أهمها الانحطاط والاستعمار، أنتجت
واقعا. وهذا الواقع لا بد من تغييره.
هذا الواقع هو واقع هذا الإنسان
الشاغر المفرغ، وأقول مفرغا بما يعني وجود إرادية في هذا الإفراغ، قد
يتلاقى فيها الاستبداد بالاستعمار وحساباته.
ولكن من هو الجزائري
النموذج الذي نقدّر أنه يستطيع بناء دولة المواطنة؟ تلك فعلا إشكالية.
لماذا؟ بين الرؤية الدينية التي تركز على الجوانب الأخلاقية وبين باقي
الرؤى ومنها التغريبية مثلا التي ترى ضرورة تفتيت المجتمع لأفراد ثم تجميعه
في أحزاب وفي تنظيمات أخرى على أساس المصالح، أو الرؤى المادية التي ترى
أن الإنسان خاضع لوضعه الاقتصادي المادي وظروف معيشته وأن التحرر من ضغط
المادة يحرر الإنسان من ضغط كل سلطة سياسية كانت أو دينية، فروق شاسعة،
نشعر أحيانا كثيرة أن لا أحد منها يقدم الجواب الشافي.
ونتساءل: من هو النموذج عند الجزائريين؟
هل
السياسي هو النموذج؟ هل هو الرئيس أو الوزير أو النائب؟ لا في الغالب
هؤلاء هم مصدر سخط الناس ومصدر ''حسد'' أو استنكار، على المنافع
والامتيازات التي يستفيدون منها أو يأخذونها، حتى خارج القانون وخارج كل
قاعدة أخلاقية.
هل النموذج هو الأستاذ الجامعي والأكاديمي والمثقف الكاتب أو المسرحي أو السينمائي؟ طبعا ذلك لا يمكن الجزم به.
هل
هو الرأسمالي والمقاول والمستثمر الذي يتجاوز خدمة مصلحته إلى خدمة الناس
والبلاد؟ طبعا ذلك لا يمكن التعويل عليه حتى الآن، لأن الصورة التي شكلها
الناس عن هؤلاء هو أنهم ''ينهبون'' الثروة العامة وجيوب المواطنين.
هل النموذج هو رجل الدين؟ وهل هو رجل الدين الجزائري أم رجل الدين بشكل عام؟
نعم
هذه إشكالية حقيقية، فـ''صناعة'' النموذج يبدو أن السلطة ووسائلها
السياسية، أي ما تقيمه من أحزاب ومن تنظيمات ونقابات وما تزرعه من ''
قيادات!!'' سياسية واجتماعية ورياضية وثقافية، ووسائلها الإعلامية، فاشل
وغير مقنع بتاتا للناس. إنه فشل عميق لسلطة تفضل الولاء والرداءة على كل
كفاءة.
نعم النموذج ما زال يأتينا في الغالب من الخارج. إنه يأتي عند
البعض من الغرب وعند البعض الآخر من الشرق. تلك مشكلة وإشكالية لا يمكن أن
تحل بمنطق هذه السلطة. وأولها أن السلطة سلطة وليست قيادة.
لا يمكن
للتسلط أن يخرجنا من الانحطاط لا يمكنه أن يبني إنسان ما بعد ''إنسان ما
بعد الموحدين'' ولا يمكن أن يبني الإنسان النموذج ولا يمكن أن ينتج إنسانا
يمتلئ أخلاقا وقيما واستعدادا نضاليا وتوثبا نحو التقدم والرقي. ولا نعرف
طريقا آخر غير الحرية وغير إقامة علاقة أخرى بين النخبة والناس