كما ورد في جريدة الخبر ليوم الإثنين 09/ 01/ 2012
نحن مع التغيير لكننا لا نريد أن يملى علينا من الخارج
استقبلنا الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في بيته. جلسنا معه في غرفة المكتب الواسعة التي تحتوي على مكتبة ثـرية، تلفت الأنظار لما تحتويه من كتب تراثية تملأ رفوفا كثيرة تحيط بالجدران. أخبرناه أن موضوع اللقاء سيكون حول قضايا ثقافية وفكرية، فأبدى رضاه، فهو من بين الشخصيات السياسية التي أعطت الثقافة مكانة خاصة.. فسألناه عن قراءاته، وعن الكتب التي أثـرت فيه، وعن والده المرحوم الشيخ البشير الإبراهيمي.. ثم توقفنا معه مطولا عند شخصية الرئيس بومدين، وعلاقته بالمثقفين. كما لم يتردّد محدثنا، الذي استوزره بومدين للتربية والثقافة والإعلام قبل أن يستوزره الشاذلي للخارجية، في إبداء رأيه من التحوّلات التي يعيشها العالم اليوم.. كان الحوار معه طويلا وشيّقا، مليئا بمواقف مثقف رضي باللحاق بالحكومة حتى لا يبقى في برجه العاجي. واليوم يعيش بين الكتب.. وهو يستعد لإصدار الجزء الثالث من مذكراته.
أرجع تدني مستوى التعليم إلى سياسة الكمّ بعد السبعينيات
''العروبيون اتهموني بالتباطؤ في التعريب والفرنكوفونيون بالتسرّع''
وأنت وزيرا للثقافة في عهد بومدين، هل كنت تـُخضع السياسة الثقافية لنظرية فكرية ما؟
في وزارة التربية، كنت مقيّدا بالمبادئ الثلاثة التي رسمها مؤتمر جبهة التحرير، وهي: ديمقراطية التعليم، والتعريب، والاتجاه العلمي والتقني. أما الديمقراطية، فكانت أمنية كل الجزائريين إبان الثورة، فدرسنا أكبر عدد من أطفالنا بين ست سنوات وأربعة عشر سنة. وخلال خمس سنوات (1965 ـ 1970)، قفزت نسبة التمدرس من 20 بالمائة إلى 54 بالمائة. بالإضافة إلى تحسين الوضعية الصحية للأطفال والمنح. وأنشأنا المطاعم المدرسية التي كانت تقدم ستمائة ألف وجبة يوميا. كما قام مركز مكافحة الأمية ما بين 1966 و1970 بتكوين خمسمائة ألف عامل، انطلاقا من فكرة أن لا فائدة في تكوين المهندس رفيع المستوى إذا عمل مع عمال أميين. أما التعريب، فيندرج في تصفية الاستعمار الثقافي. وتجدر الإشارة إلى أننا ما كنا لنخطو خطوة في هذا المجال دون الرئيس بومدين.
أما الاتجاه العلمي والتقني، فهدفه تزويد قطاعات الصناعة والفلاحة والأشغال بالكوادر الضرورية، وتحطيم الأسطورة الاستعمارية القائلة بأن الجزائري يستطيع أن يكون طبيبا أو محاميا، ولكن يصعب عليه أن يكون مهندسا متفوّقا وذا مستوى. من هنا اهتمامي بالمدرسة العليا للمهندسين التي جلبت لها أحسن المدرسين، بفضل التعاون مع اليونيسكو.
ولما انتقلت إلى وزارة الإعلام والثقافة بعد تحوير 1970، عملت كذلك وفق مبادئ، وهي أن التنمية الثقافية جزء من التنمية العامة. وكنت أحذر مساعدي من مغبة الانتقال من الثقافة الشفهية (وهي من خصائص الشعوب المتخلفة) إلى ثقافة الصورة دون المرور بالكتاب. ولهذا السبب أوليت اهتماما كبيرا للكتاب. فكانت الشركة الوطنية للنشر والتوزيع تصدر 50 عنوانا، فأصبحت تصدر مائتين. وبفضل قانون 1973 أصبحت حقوق المؤلف تعطى كاملة للمؤلف عند صدور الكتاب.
كما أنشأت مراكز ثقافية في البلديات والدوائر، ودور ثقافية، أنجز منها ستة عندما غادرت الوزارة. كما أنجزنا أربعمائة مكتبة منتشرة في القطر ضمن برنامج ألف مكتبة.
الخلاصة أنني اعتبرت من واجبي نقل روائع التراث الثقافي الجزائري إلى أكبر عدد من المواطنين، عبر الوسائل السمعية البصرية والمكتوبة التي كنت أسيّرها، ومن جهة أخرى، من واجبي أن أشجع إبداع الأعمال الفكرية لإثـراء تراثنا الوطني.
سيّرت وزارتين توصفان بوزارتي الايديولوجيا، هناك الآن طرح يقول إن سبب ما عاشته الجزائر من صراع يرجع إلى تلك الفترة. هل كنت تشعر بهذا الصراع؟
شعرت في وزارة التربية وكأنني أعمل على حافة الموسى. كنت واقعا بين تيارين، أحدهما يرى أنني أتباطأ في عملية التعريب نظرا لتكويني الفرانكفوني، والآخر يرى أنني متحمس للتعريب أكثـر من اللزوم.
والحقيقة أن الإنسان حينما تكون لديه قناعات، ويعتبر أن هذه الأمة أمازيغية الأصل، وعربية الثقافة، وإسلامية العقيدة والحضارة، وعانى الأمرّين من الاستعمار، يعمل جاهدا على استرجاع الثقافة الوطنية، وأفتخر أنني بذلت جهدا في هذا الميدان.
وبالنسبة للمستوى، فقد كان جيدا في السبعينيات، حيث كانت جامعة الجزائر، بمقياس ''اليونيسكو''، تعتبر من أوائل الجامعات في العالم العربي وإفريقيا، بدليل أن الأطباء الذين تكوّنوا في الجامعة كانوا لا يجدون صعوبة في العمل في الخارج. وهذا الحفاظ على المستوى جلب لي انتقادات عديدة حول السياسة ''المالتوسية'' والجامعة ''النخبوية''، وسياسة الكمّ على حساب الكيف التي جاءت بعد السبعينيات هي التي أدت إلى تدني المستوى.
ولماذا لم يبرز البعد الأمازيغي في تلك الفترة؟
كنت دائما أقول بأننا أخطأنا بعد الاستقلال عندما واصلنا في ترديد خطاب الحركة الوطنية حول الهوية، والتي كان لها الحق لما ركزت في أدبياتها على العروبة والإسلام، ولم تركز على البعد الأمازيغي، لأن الاستعمار الفرنسي لم يحارب الأمازيغية بحكم استحالة تحويل السكان من أمازيغ إلى ''غاليين''، بينما أراد استبدال العربية بالفرنسية والإسلام بالمسيحية. على هذا كان من الطبيعي أن تركز الحركة الوطنية بشقيها، السياسي (حزب الشعب) والديني الثقافي (جمعية العلماء)، على العروبة والإسلام.
الخطأ بعد الاستقلال أننا أخذنا بهذا الخطاب، بيد أنه كان من المفروض أن نعود إلى ثلاثي ابن باديس الذي لم يهمل الأصول الأمازيغية. ورغم ذلك، عززنا كرسي اللغة الأمازيغية الذي سلم للروائي مولود معمري الذي انتابته حالة من اليأس عندما لم يجد عددا كافيا من الطلبة.
فاجأه طه حسين عندما طلب منه أن يكون الحديث معه بالفرنسية
''أحيانا أقول بأننا تسبّبنا في اغتيال أولوف بالم''
ما هو الدور الذي لعبته الكتب في حياتك؟
نشأت في بيئة تتسم بالدين والعلم والوطنية، لعب فيها الكتاب دورا كبيرا، فالوالد (رحمه الله) كان يملك مكتبة ثرية. ومنذ سن المراهقة، أصبحت مولعا بالكتب، ربما بالوراثة، وهكذا كوّنت بدوري مكتبة أهديتها منذ سنوات للمكتبة الوطنية الجزائرية بالحامة، وهي تحتوي على 12 ألف مجلد، نصفها بالعربية ونصفها الآخر باللغات الأجنبية، أهم ما فيها أمهات كتب الثقافة الإسلامية، ومجموعة مجلات مجامع دمشق وبغداد والقاهرة، ومجلة المورد، ومجلة الجامعة الأمريكية ببيروت. والقسم الفرنسي يحتوي على كتب في الفلسفة والتاريخ والأدب. أما ما تراه اليوم، فهي مكتبة الوالد، وأنا أعمل على إثرائها باقتناء المزيد من الكتب التراثية.
يبدو أن تأثير والدك على تكوينك كان قويا؟
نعم، لعب والدي الشيخ البشير الإبراهيمي دورا أساسيا في بلورة شخصيتي، بتربيته وتوجيهه، فقد كان الوالد والأستاذ والقدوة. وبعد وفاته، لم تنقطع الصلة بيننا، حيث كنت أستلهم قراراتي، في كثير من الأحيان، من أقواله وكتاباته ومواقفه.
وهل ما زلت مع الطب.. مهنتك الأولى؟
درست الطب في كلية الجزائر ثم كلية باريس، ثم أصبحت بعد الاستقلال أستاذا مساعدا بكلية الطب بالجزائر العاصمة طيلة سنتين. ولكن، عندما عيّنت وزيرا للتربية، انقطعت الصلة بيني وبين الطب، رغم أنني ما زلت أشعر بالحنين إلى مدرجات التدريس وإلى جو المستشفى.
وما هي أهم الكتب التي قرأتها في المدة الأخيرة؟
منذ 2004 عندما قرّرت الابتعاد عن الحياة السياسية ولسان حالي هذا البيت للمعري:
وزهدني في الخلق معرفتي به... وعلمي بأن العالمين هباءُ
واليوم، تجد حياتي مقسمة بين المطالعة والكتابة، أقصد كتابة المذكرات، وقد صدر منها جزءان، والجزء الثالث جاهز للطبع. أقرأ باللغتين، العربية والفرنسية. أما مطالعاتي، فآخر ما قرأتُ باللغة العربية ومن كتب التراث هو ''بغية الرواد في ملوك بني عبد الواد'' ليحيى بن خلدون، الأخ الأصغر لعبد الرحمن بن خلدون، وقد رجعت إليه بعد أن اختيرت تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية لعام .2011 وقد اطلعت من خلاله على بعض جوانب حكم الدولة الزيانية. وآخر ما قرأت في الثقافة العربية الحديثة مذكرات الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، وبالفرنسية بعض الكتابات عن الثورات العربية الحالية. ولكني أفضل كتب التراث. وهكذا، وضمن الآثار الكاملة لتولستوي، الكاتب الروسي المعروف، فأنا أطالع أشياء غير معروفة له، وهي يوميات ودفاتر.
تحدثت في مذكراتك عن لقاء جمعك بطه حسين بالقاهرة.
عندما ذهبت إلى مصر في زيارة رسمية، وكنت حينها وزيرا للتربية، عبّرت عن رغبتي في زيارة طه حسين نظرا لمكانته. زرته في بيته، وكانت نيّتي أن أذكّره ببعض الأشياء المهمة، وأحدّثه عن أهمية كتبه بالنسبة للشاب الجزائري الذي كنته لما كنت أدرّس في الثانوية. لقد لعبت كتبه دورا في تكوين جيلنا. وأذكّره كذلك بالمراسلة التي كانت بينه وبين والدي الشيخ البشير الإبراهيمي لإنشاء مركز ثقافي مصري في باريس، ليكون بمثابة جسر بين المشرق والمغرب. وفوجئت عندما طلب أن يكون الحديث بالفرنسية، نظرا لوجود زوجته سوزان بيننا. وركز طه حسين في حديثه على سؤالي عن حقيقة ما قام به الجيش الفرنسي من أعمال وحشية في الجزائر. فحدثته عمّا قام به جنرالات القرن التاسع عشر، من سانت أرنو إلى لا موريسيير وجنرالات جيش إفريقيا، ثم انتقلت إلى جنرالات القرن العشرين، من أمثال بيجار وماسو. وفاجأني حينما ظل يردّد ''غير معقول''. لقد أدركت أنه كان مبهورا بالجانب الإيجابي لفرنسا، ولم يكن يتصوّر أبدا أن فرنسا قادرة على ارتكاب هذه الأعمال الوحشية التي وصلت إلى درجة الإبادة. لو كان حيا معنا اليوم، كنت سأحدّثه عن كتاب أوليفييه غراند ميزون ''الاستعمار الإبادة''، كشاهد على جرائم فرنسا من داخل فرنسا نفسها.
وما هي الشخصيات التي أثـرت فيك كثيرا؟
في أوروبا، شعرت بميل كبير للرئيس الألماني الأسبق لفون فايت ساكر، لما وجدت فيه من ثقافة واسعة في الفلسفة وتواضع كبير في شخصيته. وأجد أن أولف بالم، رئيس حكومة السويد، كان شخصا محترما، نظرا لبساطته وتواضعه. زارني في بيتي، وأخبرني أنه يوجد أربع سيارات في الحكومة السويدية، وجميع الوزراء يتنقلون بوسائل نقل عمومية. نشأت بيني وبينه علاقة ودية. وفي بعض الأحيان، أقول إننا نحن الجزائريين تسببنا في اغتياله. لما زار الجزائر، تصادف ذلك مع زيارة ياسر عرفات. فدعوت أولف بالم لحضور حفل على شرف عرفات. وسألته إن لم يكن سيشعر بالحرج لمصافحة عرفات، فقال إنه لا يمانع. ثم حدث الاغتيال. ولا أستبعد أن يكون جرى بيد الموساد، فالإسرائيليون لم يتقبلوا أن يقدم سويدي على مصافحة عرفات.
في العالم العربي، أعجبت بشخصية العلاّمة الشيخ محمد حسين فضل الله، رحمه الله، الذي كان ملما بالعلوم التقليدية والعقلية، والذي كان يعشق الجزائر، ويدعو إلى نبذ الخلافات المذهبية ووحدة الأمة ضد الصليبية الجديدة.
أما الشخصيات الجزائرية التي أثرت في نفسي وأثارت إعجابي، فهناك عبد الحميد بن باديس الذي كان له الفضل في تحديد معالم الهوية الوطنية، والعربي بن مهيدي وعبان رمضان اللذين امتازا بالقدرة على التنظير وعلى القيادة الميدانية إبان حرب التحرير، ويمكن إضافة محمد العيد آل خليفة بشعره الراقي ونزعته الصوفية، والصديق محمد شريف ساحلي الذي ركز على تصفية النظرة الاستعمارية، ومُحاند تازروت الذي ترجم ''انحطاط الغرب'' لشبنغلر، و''تاريخ الشعوب الإسلامية'' لبروكلمان من الألمانية إلى الفرنسية، والذي ما زالت أعماله تنتظر الدراسة المعمقة.
الكتاب الذي ترك الأثـر الأكبر؟
القرآن الكريم طبعا، كل رمضان أختمه، وأستمع إلى ترتيلات نادرة، منها تسجيلات مصطفى إسماعيل. وأعيد قراءة القرآن الكريم كل رمضان، وفي كل مرة أقول كيف مرت علي هذه الآية؟ في الأدب، يعجبني أبو حيان التوحيدي وهو، حسب اعتقادي، أعظم من الجاحظ بكثير. فالقرن الرابع أعطى الثقافة الإسلامية شخصيات كبيرة. ونجد اليوم أن الغرب الإسلامي هضمت حقوقه، فالشرق اهتم بمفكريه، وهمّش مفكري الجناح الغربي للعالم الإسلامي. وأعتقد أن ابن خلدون وكتاب ''المقدمة'' مهم جدا. كلما قرأته، تدرك أن الرجل له إلمام كبير بطبائع البشر، ونمو الدول، وهو فعلا مؤسس علم الاجتماع. أما الكتب التي تركت أثـرا في نفسي، فهناك ''الخيبة الأدبية للسياسة الغربية في الشرق'' لأحمد رضا، وكتاب ''تصفية التاريخ من النظرة الاستعمارية'' لمحمد شريف ساحلي.
وماذا عن علاقتك بالموسيقى؟
أستمع، لكن أقل من زمان. ما زلت أستمع للموسيقى العربية، بالأخص أم كلثوم وعبد الوهاب، وكلاهما يعتبران قمة الموسيقى الشرقية. أما الموسيقى الكلاسيكية، فمازلت وفيا لباخ، وكنت أستمع له منذ كنت طالبا في باريس.
وموسيقى الجاز، هل تزال تستمع لها؟
نعم، والموسيقى الأندلسية، خاصة الحاج محفوظ ودحمان بن عاشور.
هل يهتم الدكتور طالب بالرياضة؟
نعم، أتابع البطولات الأوروبية، وأنا من عشاق ''البارصا''، ومن محبي اللاعب الماهر ميسي. إلى جانب تشجيعي للفريق الوطني في كل مقابلاته.
تساءل عن المغزى من وجود ليفي إلى جانب الليبيين
''غير مقبول أن يرفض مسؤول فرنسي في الجزائر مصافحة وزير المجاهدين''
كوزير خارجية كان نصف نشاطي موجها للقضية الفلسطينية
القضية الفلسطينية اليوم يفترض أن تكون قضية محورية؟
هي قضيتنا الأساسية. كوزير خارجية، كان نصف نشاطي، ودون مبالغة، يتمحور حول القضية الفلسطينية.
لما كنت تلتقي المسؤولين الفرنسيين، كيف كان إحساسك؟
تكلم عني رولاند دوما، وزير خارجية فرنسا سابقا، بطريقة غريبة في مذكراته التي صدرت أخيرا، قال إنه يحترمني كثيرا، لكنه تحدث عن رفضي التوجه إلى مبنى وزارة الخارجية الفرنسية بباريس أو سفارة فرنسا بالجزائر، وقال إنه تحتم عليه زيارتي في بيتي، وقال إنه الوزير الفرنسي الوحيد الذي دخل بيتي. وكتب أن الرئيس ميتران أخبره لما عيّن وزيرا للخارجية: ''طالب الإبراهيمي لا يحبنا''. وها قد شهد شاهد من أهلها. وهذا إحساس يصعب على المرء أن يتخلص منه. وما يثير غضبي لدى المسؤولين الفرنسيين هو بقاء عقلية المستعمر لديهم.
يعيش العالم اليوم حالة من التحوّلات الكبرى، ذهب البعض إلى درجة الحديث عن عودة الظاهرة الاستعمارية.. هل توافق هذا الطرح؟
الغرب يبحث دائما عن طرق استعمارية جديدة يسميها ''العولمة''، أو ''الشرق الأوسط الجديد''، أو ''الفوضى الخلاقة''. وهناك اليوم محاولات لاستيعاب الثورات العربية من طرف أمريكا وإسرائيل. نحن إلى جانب التغيير، هذا أكيد، لكننا لا نريد أن يستحوذ عليه الاستعمار الجديد. لما أرى بيرنارد هنري ليفي بجانب الليبيين في بنغازي، أتساءل عن المغزى من ذلك. لا بد من وجود وعي. نحن مع التغيير، لكننا لا نريد أن يملى علينا من الخارج.
أعتقد أن مفهوم السيادة الوطنية عبارة عن مسألة مقدسة. والمسؤول الجزائري كانت له دائما حساسية تجاه هذه المسألة، لأنه عانى من الاستعمار كثيرا.
شهدنا في الأيام الأخيرة عودة لفكر فرانز فانون بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله، هل تعتقد أن فكره ما يزال صالحا اليوم؟
يعدّ فرانز فانون من المفكرين الذين التحقوا بالثورة الجزائرية التي أعطته كثيرا، وهو بدوره أعطاها الشيء الكثير. أعتقد أن فكره ما يزال صالحا لمكافحة الاستعمار الجديد، وهو من تراثنا. لكن، يجب أن لا ننسى مفكرّينا. بعض حملة الثقافة الغربية يعظمون الأجانب، وينسون الجزائريين. ألبير كامي مثلا يجد من يعظمه في الجزائر. وهذه عقدة موجودة لدى هؤلاء إذ يعترف بالأوروبي، ويحط من قيمة الفكر المحلي أو الوطني.
وما رأيك بخصوص التعاطي مع قضية الاستعمار اليوم؟
فكرة الاعتذار لم تكن واردة لدينا في السبعينيات. فالإنسان منا كان يفرض الاحترام في بلده. كنا نفضل طي الصفحة، لكن هذا لم يكن يعني نسيان الصفحة. أحيانا أقول ربما بالغنا في طي الصفحة، ما جعل شباب اليوم يتكلم عن فرنسا بإيجاب.
في وزارة الخارجية، كنت دائما أقول للذين كانوا يعملون معي إن التعامل مع فرنسا يجب أن يخضع لما فعله أجدادهم. وهناك تصرفات وقعت في السنوات الأخيرة أتأسف لها كثيرا، فعندما يأتي مسؤول فرنسي ويصرّح بأنه لن يصافح وزير المجاهدين، ويقول وزير آخر إن العلاقات بين فرنسا والجزائر سوف تتحسن بذهاب جيل الثورة، كل هذه التصرفات غير مقبولة، وعلينا اليوم أن نركز على ما فعلته فرنسا في الجزائر، حتى لا ننسى، وحتى لا يفهم شباب اليوم أن طي الصفحة يعني تمزيقها.
لم يسمح لأسرته بالتقرّب من دواليب السلطة
''بومدين مات ولم يترك لا عقارا ولا مليارا''
هل صحيح أن الرئيس بومدين كان يحتقر المثقفين؟
من التجني أن ندّعي أن بومدين كان يحتقر المثقفين. بالعكس، كان يعرف الكثير منهم، ويقرأ لهم ويحترمهم. كان يقرأ لطه حسين، نجيب محفوظ، ويستمع لأم كلثوم، والشيخ إمام. ولكنه كان يحث المثقفين على الخروج من برجهم العاجي، وأن يساهموا في عملية البناء، ولو بالنقد. في نقاش معه في 1965 لما أراد إقناعي بالدخول إلى الحكومة، قال لي بأن الاكتفاء بالنقد دون العمل يعدّ موقفا سلبيا من قبل المثقف. ولا بد أن نذكر هنا أن الرئيس بومدين كان يقيم في شهر رمضان من كل عام حفلا ساهرا في قصر الشعب، يدعو له عددا كبيرا من العلماء والأدباء والشعراء والفنانين، ويحاورهم بكل بساطة وتواضع.
وماذا عن علاقته بالطاهر وطار؟
انفعل بومدين لما قرأ رواية ''الزنجية والضابط''، التي تناولته شخصيا بالنقد، واتصل بي مستفسرا، وقلت له إن وطار محافظ في الحزب، فتفاجأ. ولم يتخذ أي إجراء ضد وطار.
هل قرأ ''الزنجية والضابط'' شخصيا، أم أخبروه عن محتواها؟
بل هو من قرأها شخصيا.
وكيف كنتم تنظرون للروائي رشيد بوجدرة؟
هو كذلك لم يتعرّض للمنع، رغم نقده الكبير الموجه للسلطة. وأبدا لم نكن نتحسس منه، بما في ذلك بومدين.
من هو الكاتب المفضل لدى بومدين؟
كان مولعا بنجيب محفوظ، وقرأ أعماله كلها، لأنه عاش في القاهرة. وكان يقرأ كل ما يتعلق بالقاهرة. في بعض المرات، كان يقول لي إنهم أخرجوا فيلما مقتبسا من إحدى روايات نجيب محفوظ التي يعرفها جيدا. ولما كان شابا، قرأ المنفلوطي، وأشعار شوقي، وكان يستعين كثيرا بالقرآن الكريم. لديه بعض الآيات أثـرت عليه أيما تأثير، وكان يرددها في أحاديثه ويستشهد بها. كما كان مولعا بتاريخ الإسلام والصحابة المتعاطفين مع الفقراء، ومنهم أبي ذر الغفاري. مع بومدين، كان بإمكان المرء أن يتحدث حول كثير من قضايا الثقافة والتاريخ.
هل كان يزورك في البيت كثيرا؟
زارني مرتين. حدثته ذات يوم عن الجنرال الفرنسي سانت أرنو ورسائله، وقلت له: إذا أردت أن تفهم الاستعمار، فعليك بقراءة سانت أرنو. ولما وجد الكتاب عندي، طلب مني أن أهديه له وقال: ''أنت تسافر كثيرا، وبإمكانك شراء نسخة أخرى من الكتاب. أما أنا، فلا أسافر مثلك''. فأهديت له الكتاب.
وهل كان شخصا صارما في حياته الشخصية؟
لا يوجد شخص إنساني أكثـر من هواري بومدين. كرئيس دولة، كان يبرز الصرامة. ومن أهم مميزات شخصيته الوفاء للشخصية الوطنية. فملتقيات الفكر الإسلامي لم تكن لتنظم دون بومدين، فهو من قال لمولود قاسم نايت بلقاسم: ''عليك بدعوة العلماء المضطهدين في العالم العربي والإسلامي ليعبّروا عن أفكارهم في الجزائر بكل حرية''.
كان بومدين وفيا لمقوّمات الشخصية الوطنية. وهو من كان لا يتكلم بالفرنسية أمام زوّاره من المسؤولين الأجانب. والغريب أن الرئيس الفرنسي، جيسكار د
يستان، قال لما زار الجزائر إن التيار لم يمرّ بينه وبين بومدين، لأنه خرّيج الأزهر، وهم طبعا يفضلون المتخرّجين من جامعاتهم.
وتتمثل النقطة الرابعة لحب الشعب له في تمسكه بالقضية الفلسطينية.
ترعرعت بين أحضان تيار إصلاحي يتزعمه الإبراهيمي، كيف وجدت نفسك في تيار بومدين غير الليبرالي، أليس هذا تناقضا؟
ليس هذا تناقض. أنا كمسلم أؤمن بالعدالة الاجتماعية. ربما هناك من فهم أن الاشتراكية هي ماركسية، لكن لا بومدين كان ماركسيا، ولا من حوله كانوا كذلك. تربيته القرآنية هي التي تركته يؤمن بالعدالة الاجتماعية. هناك طبعا من كان يرغب في الحفاظ على مصالحه بدعوى الدفاع عن الإسلام، فقالوا ماذا يفعل الدكتور طالب مع بومدين؟
كيف كانت علاقة بومدين بمالك بن نبي؟
لم يتطرّق بومدين يوما لمالك بن نبي. كان بن نبي يقول إنه ظلم لما عيّن في الإدارة كمدير للتعليم العالي، وكان على حق. وفي يوم من الأيام، قلت له من الأحسن أن تصبح مستشارا للوزير مع احتفاظك بنفس الامتيازات، لكنني شعرت بأنه لم يهضم الموضوع، وتفهمت طبعا، فهو مفكر كبير ومن حقه الطموح في أكثـر من هذا. وبالفعل، طلبت من بومدين أن يعيّنه مستشارا له، لكن الرئيس لم يبد أي اهتمام، ففهمت أنه لا يريده معه.
هل كان الرئيس بومدين منزعجا من أفلام ''المفتش الطاهر''، التي يقال إنها كانت تنتقد نظام حكمه؟
لا، لم يكن منزعجا، لأنه كان مولعا بالسينما، وكان يعرف ألفريد هتشكوك وفيديريكو فيليني وكل السينما الإيطالية والفرنسية الكلاسيكية.
وكيف عيّن المرحوم حسن الحسني في المجلس الشعبي الوطني؟
أتذكر أنه وقع نقاش في مجلس الوزراء. بن يحيى اقترح مصطفى كاتب، وأنا اقترحت حسن الحسني، ومال بومدين إلى اقتراحي، نظرا لشخصية حسن الحسني الشعبية.
وماذا تبقى من بومدين اليوم؟
لو جرى استفتاء اليوم حول رؤساء الجزائر، فسوف نجد أن شعبيته تأتي في المقدمة، لأن الشعب الجزائري لم ينس أن هذا الرجل بقي وفيا لبيئة الفلاحين. ومن هنا، آمن بمبدأ العدالة الاجتماعية، ولم يكتف بالحديث عنه في الصالونات. وفي آخر عهده، برزت طبقة متوسطة، كانت تعيش بكرامة، ولم يكن يوجد عندنا لا غناء فاحش ولا فقر مدقع. وهذا إنجاز ملموس وليس فلسفة.
من جهة أخرى، أحبه الشعب لعلاقته بالمال، فتربيته القرآنية جعلته يعتبر متاع الدنيا غرورا. واليوم، بعد أن فضحت هذه الثورات العربية علاقة الرؤساء بالمال، أعتقد أن بومدين يستحق احترام الجزائريين وكل العرب، فقد عاش حياة بسيطة متقشفة، ومات ولم يترك لا عقارا ولا مليارا.
وخلافا لما رأيناه في كثير من الأنظمة العربية، فإن بومدين لم يسمح لأسرته أن تتقرّب من دواليب السلطة.
هل بإمكانك أن تقدم لنا بعض الأمثلة؟
لما توفي والده، بلغه الخبر ونحن في مجلس الوزراء، كلمني بالليل، وقال لي: ''أنا ذاهب إلى فالمة لحضور مراسيم الدفن، وحذار أن تهوّل الصحافة''. ثم استقل الطائرة لوحده.
وبعد ذلك، عندما مرض وسافر إلى موسكو للعلاج، سافر معي شقيقه، ولما وصلنا، سألني من دفع سعر تذكرة أخيه، وقال لي: ''عليك أن تخبر عبد المجيد علاهم بأن يخصم سعر التذكرة من مرتبي الشهري''